Topics
السؤال عن الإنسان حقيقته ونطاق قدراته أصبح
يحتل أهمية كبيرة في هذا العصر العلمي. و العلم بسنة الخلق يفيد بأن ابن آدم يتشكل
آلافاً من التشكلات، وهو فيما يبدو تمثال من طين ، وعبارة عن كيان من اللحم والجلد
والدم والعظم، قائمٍ على الحركات الميكانية. ويعمرداخله عالَمٌ كيماوي بأسره. وإن
حياة المرء تعتمد على الاطلاعات والبلاغات، وليس المرء إلا خيالاً و تصوراً . وكل
حركة صادرة منه خاضعة للخيال والتصور. وإن جميع المآثر في العالم الإنسان يدور
رحاها حول قوة غير مرئية من الخيال والتصور والتخييل. وإن ابن آدم يُلبس الخيالَ
أنواعاً مختلفةً من المعاني، فيتجلي منه كل جديدٍ وحديث من المظاهر.
وإن
الشعورالإنساني نما وترعرع ترعرع الصبي، وقدرة الصبي الشعورية ـ حين يفتح عينيه في
هذا العالم شيء لا يوبه به بالنظر إلى
الدنيا . ثم يمر بمرحلة الصغر والصبا ليدخل مرحلة الغلام، فتزيد قوته العقلية
عماكانت عليه، وتبلغ قوته العقلية والجسدية ذروتهاحين يبلغ مرحلة الشباب طبيعاً ،
وقس عليه النوع البشري فإنه تدرج شعوره في الرقي والنمو إلى ما عليه اليوم،
ولايسعنا ـ نظراً إلى ما كسبه البشر من الرقي والتطورـ أن نقول: هذا العهد يمثل
عهد الشباب للعلم والمعرفة، فإن العقل الإنساني يتسع اتساعاً لايتناهي، يدفعه كل
لحظة إلى التقدم نحو الأمام، ولايزال رصيد
لابأس به من الخلق و التسخير خافياً ، ولم يبرز إلا جانب من القدرات والصلاحيات
لعالم الظهور وإن عدداً لايحصى من القدرات
للأنانية الإنسانية لاتزال تحاول البروز والظهور.
وإن
التجارب والمشاهدات والمحسوسات كلها تصدرعن العقل والذهن، ومن العسير أن نجرد
شيئاً مما أوجده البشر عن تأثير العقل وفعله، فإن العقل البشري يتسع حين يفكر
الإنسان ويتأمل، فيتوصل إلى كلية من الكليات أوعلم جديد من العلوم .
كان العقل الإنسان لغزاً من الألغاز منذ آلاف
السنين ولايزال كذلك في عصرالعلوم الطبيعية هذا أيضاً، ونحن نملك اليوم من الوسائل
العلمية والتجريبية أضعافاً مضاعفة عما كنا نملكه بالأمس، مما يساعد على اكتشافات
جديدة لأهل العلم والمعرفة .
فلا
يكاد يُكشف عن طبقة من الطبقات حتى تنكشف لنا طبقة أخرى غيرها ، ولانكاد نتدبرها
حتى تظهر لنا منطقة جديدة . ويقدر علماء الطبيعة وعلماء النفس أن الإنسان لم يقدر
على استخدام صلاحياته وقدراته التي يملكها
إلا على ما بين خمس إلى عشر في المئة. وما عداها من قواه خافية كامنة فيه، فكل ما
وصل إليه من الرقي والازدهار لايعدو أن يكون ثمرة من ثمار استخدامه لخمس إلى عشر
في المئة من قدراته فحسب .
ويتجلى
من هذا كله في أن النجاح الذي يشهده عصرنا ـ بما فيه علم الطب وعلم الحيوانات و
النباتات وعلم الأحياء والطبيعات والكيميا والبرق والتغييرات وعلم النفس (psychology) والشبيه بعلم النفس وغيرها من العلوم؛
كل ذلك يعكس القدرات الإنسانية. ولكن حين نرى هذه النجاحات العلمية والفنية قلما
يتبادر أذهاننا إلى أنها تعكس قوانا العقلية، التي أودعنا الله تعالى إياها.
وإن
الاكتشافات المتزايدة كل يوم عن النفس والعقل توضح بجلاء أن الوجود الإنساني ينقسم
على قسمين: قسم منه عبارة عن عالمه الخارجي، وقسم منه عبارة عن الحركات الناشئة في
داخله . و القسمان من النفس الإنسانية بعضهما من بعض ، وأن بعضهما آخذ بعناق بعض،
ولقد تجلى في كل عصر بصورة أو أخرى أن الإنسان ليس عبارة عن هذه الحركات الجسدية والكيفيات
الداخلية فحسب ، فإن في داخله مجالاً مجرداً عن الحركات المادية، وينحدر عن هذا
المجال كل التخييلات والأفكار إلى المجال المادي، وهذا المجال هو لب الإنسان
وأصله، وهو ما تعارف الناس على إطلاق "الروح" عليه. و قد نبه الروحانيون
على أن الإنسان ينكشف له قوى الروح فيما إذا ضرب في أرض قلبه ونفسه وساح.
وتطرقت
الصحائف السماوية كلها إلى ذكر الصفات الإنسانية الغير العادية، وتنص الكتب
السماوية على أن الإنسان ـ فيما يبدو ـ مركب من اللحم والجلد، إلى جانب ذلك يعمل
بداخله طاقة أو جوهر يعكس صفات الخالق، وأطلق على هذا الجوهر "الروح "،
ويكسب الإنسان بهذه الروح علوم الكون.
وقسمت
الكتب السماوية إحساسات الإنسان و وارداته القلبية كلها على نوعين، وأطلق عليهما
"الآفاق والأنفس". والآفاق عبارة عن المظاهر المادية التي تتجلى في
الظاهروتشاهد، والأنفس عبارة عن مجموعة من الملامح التي تشكل الحياة الداخلية
للكون. والعلم الإنساني عن الأنفس لايزال في الدرجات الأولى من سلم الرقي
والازدهار. ولم يمض إلا قليل من السنوات حين كانت الاكتشافات و التجارب الطبية
تعتبر من السحر والطلسم، وألقيت عليها ستار من الشك والريب والأسرار، بينما نعلم
اليوم هذه العلوم علمَنا بالحقائق الثابتة، وقس عليه اليوم الروح أوالأنفس.
ثمة
خمس حواس في الإنسان تفعل فعلها فيه وهي: البصر والسمع والنطق والشم واللمس. وكل
واحدة من هذه الحواس تنفرد بحدها وتعريفها ونطاق عملها وأثرها دون أن تتجاوز حاسةٌ
من الحواس حدوده المرسومة لها، فمثلاً لايسعنا أن نتجاوز بعيونا إلى أكثر من عدة
أميال، كما لايمكننا أن نسمع بالأذن من الأصوات إلا ماكان على مسافة محدودة متوسطة
لا أقل ولا أكثر . ولايسعنا أن نلمس من الاشياء إلا ما دنا إليه.
والحواس
الإنسانية الخمس هذه ـ رغم أنها تنحصر في الاتجاه المادي ـ تتجاوز إلى ما لانهاية
له في الاتجاه الروحاني. والمجال الروحاني للحواس يكون خافيا وكامنا في أغلب
الأحوال، فيتحرر البصرفي هذا المجال عن حدود الفواصل، وبإمكان الأذن أن تسمع كل
صوت مهما كان طول تموجاته . والنطق يستغني عن الألفاظ، فيتمكن الإنسان من معرفة
مايجول في خاطر غيره، وإطلاع غيره على ما يجول في خاطره هو دون أن يكلمه ويحدثه.
والاتجاه
الحقيقي للقدرات الإنسانية لاينشط إلاحين يحركه الحواس الروحانية. وهذه الحواس
تفتح أبواب الإدراك والمشاهدات التي تكون مغلقة في معظم الأحوال . وبهذه الحواس
يدخل الإنسان إلى السموات ونظام النجوم، فيلتقي بالمخلوقات الغيبية والملائكة.
وخيرسبيل
إلى تحريك وتنشيط الحواس الروحانية هي المراقبة، والمراقبة تمرين وتدريب، وهي
أسلوب من التفكير، وهي عبارة عن حالة ذهنية تنبه الحواسَ الفاترة وتحركها.
والمراقبة تساعد على تسخيرالقوى التي تكمن وراء الحواس المادية، والمراقبة تضيء
القدرات الخافية، ولم يمض عهد من العهود إلا قد عرف المراقبة وسيادته.
وتحمل
المراقبة فوائد روحانية ونفسية وطبية لاتحصى ولاتعد. فهي تقضي على التوترالذهني و
تورث الطمانينة والهدوء . وتمنع التعقيدات النفسية، وتدفع الأمراض من أن يقترب إلى
صاحبها . كما تمنح المراقبةُ المرءَ الراحة النفسية وطمانينة القلب، فيسيطربها على
الميول والنزعات السيئة، ويتمكن من تقديم العطاء المثمر في شؤون حياته.
ولايخلو
دينٌ من الأديان من عنصرالمراقبة، فهي جميعاً تركزعلى العبادات التي تعين على
الهدوء والاعتزال، وارتكاز التوجهات. والصفحات التالية تلقي ضوء ـ بالتفصيل ـ على
كل ما قيل بالإجمال عن المراقبة فيما مضى، وسنشرح حقيقة المراقبة، وكيف يسع
الإنسان أن ينبه قواه الخافية بالمراقبة؟
خواجۃ شمس الدين عظيمي
السؤال عن الإنسان حقيقته ونطاق قدراته أصبح
يحتل أهمية كبيرة في هذا العصر العلمي. و العلم بسنة الخلق يفيد بأن ابن آدم يتشكل
آلافاً من التشكلات، وهو فيما يبدو تمثال من طين ، وعبارة عن كيان من اللحم والجلد
والدم والعظم، قائمٍ على الحركات الميكانية. ويعمرداخله عالَمٌ كيماوي بأسره. وإن
حياة المرء تعتمد على الاطلاعات والبلاغات، وليس المرء إلا خيالاً و تصوراً . وكل
حركة صادرة منه خاضعة للخيال والتصور. وإن جميع المآثر في العالم الإنسان يدور
رحاها حول قوة غير مرئية من الخيال والتصور والتخييل. وإن ابن آدم يُلبس الخيالَ
أنواعاً مختلفةً من المعاني، فيتجلي منه كل جديدٍ وحديث من المظاهر.