Topics
إن اليقظة
والنوم كليهما على صلة بالحواس. تزداد سرعة الحواس في حالة أو كيفية، بينما تخف
سرعتها في حالة أوكيفية أخرى دون أن يتغيرنوع الحواس. فاليقظة و النوم كلاهما تعمل
فيهما الحواس من نوع واحد أوفصيلة واحدة. واليقظة والنوم في ـ الواقع ـ عبارة عن
بيتين في الدماغ. وبعبارة أخرى: يحمل الإنسان دماغين: دماغ تتحرك فيه الحواس فيسمى
باليقظة ، ودماغ أخرى تتحرك فيه الحواس فيسمى النوم.أي أن حواس واحدة تتحول إلى
النوم واليقظة. والحياة عبارة عن تحول الحواس هذا. فإذا طرأ سكوت خاص على حاسة من
حواس سطح الدماغ، تحركت الحواس الأخرى. وصفة عمل الحواس وقاعدته في اليقظة أن
الجفن يضرب مقلة العين، فتبدأ الحواس في العمل. أي أن الإنسان يخرج من حواس النوم
إلى حواس اليقظة. ولنا أن نضرب في العصر الحاضر مثلاً عليه بالكاميرا (camera). فالكاميرا تحمل الشريط وكذلك العدسة (LENS). ولكن إذا لم
تضغط على زر تشغيل الكاميرا ولم يتحرك الغطاء (shutter) فإن الشريط لايقبل الصورة. ومثل ذلك
تماماً إذا لم يضرب الجفن مقلة العين، فإن المناظر الموجودة أمام الدماغ لاتتحول
إلى الشريط على شاشة الدماغ. وهذه هي المرحلة الثانية في اليقظة. والمرحلة الأولى
هي أن الإنسان حين يستيقظ من النوم فإنه يتخيل شيئاً من الأشياء على الفور. وهذا
الخيال ـ في الواقع ـ يشكل حداً بين اليقظة والنوم. فإذا تعمق هذا الخيال بدأت
عملية غمض الجفن. وتبدأ المناظر الموجودة في الانتقال إلى شاشة الدماغ متزامنة مع
غمض الجفن.
وقانون النظر
يقول: إن الدماغ يتلقى بلاغاً على مستوى العلم بجانب المناظر الموجودة على الدماغ.
والذهن يلبس هذا البلاغ معنى بالنظر والرؤية. والانعكاس الذي ينتقل إلى الدماغ
الإنساني مع غمض الجفن، تُقدرُ فترته بخمس عشرة ثانية. فلاتمضي خمس عشرة دقيقة حتى
يحل منظرأومنظران أوأكثرمن المناظر الماثلة محل المنظر الأول . ويستمر ذلك بشكل
متوالٍ.
والنظر على صلة
مباشرة مع مقل العين في اليقظة. وضرب الأجفان على مقل العين يشكل زرَّ كاميرا العين الذي يصور مرات وكرات. والسنة أن
الجفن إذا لم يضرب سطح مقل العين، لم تنشط الأعصاب الموجودة داخل العين. والأعصاب
التي تحتضنها العين لايعمل شعوره مالم تضربها الأجفان أوحجب العين. ولوشد أجفان
العين، وتوقفت حركة المقل، مَثَلَ الخلاءُ أمام النظر. ويتوقف تصور المناظر.
إن الكون كله
وما في الكون من الأنواع والأفراد مرتبط كله بمركز ونقطة واحدة . والعيون الظاهرة
ترى مراحل الحياة المختلفة وأزمنة الحياة المختلفة مفصولة بعضها عن بعض. ولكن
الزمان ـ مهما شهد من الرفع والخفض، ومهما شهدت مراحلُ الحياة من التغيروالتبدل في
الواقع كلها مرتبط بمركز ونقطة واحدة. وتربط التيارات والأشعة بين أفراد الكون
والمركز. فتنزل التيارات من المركز وتغذي أفراد الكون من جانب، و تُبقى على المركز
والنقطة، في جانب آخرتصعد هذه التيارات بعد أن تغذي الأفراد. و سلسلة النزول
والصعود هذه هي الحياة. وصورة الكون التي يشكلها المرحلة الزمنية بين الشعاع
والتيار لايسعنا أن نطلق عليها أكثرمن أنها "دائرة". أي أن الكون كله
دائرة. و تتجلي هذه الدائرة الواحدة ـ متوزعة على الحركة الصعودية والنزولية ـ في
ست دوائرة . ويطلق على دائرة الكون وأفراد الكون " النفس". والنفس مصباح
من المصابيح، يشع بنوره، ويطلق على ضوء هذا المصباح أوشعلته "النظر".
ولايخفى أن الشعلة تلازم الضوء ، وحيث يوجد الضوء يضيء حوله. وتشاهد شعلة المصباح
نفسها حين يصل إليه الضوء. وشعلة المصباح تحمل ألواناً كثيرة. وتتعدد تلونات الكون
عدد الألوان. ويكون ضوء شعلة المصباح خفيفاً وخافتاً وقوياً وأقوى. فالذي يقع عليه
الضوء خافتاً للغاية تثير أذهاننا فيه توهمات. والذي يقع عليه الضوء خافتاً تثير
أذهاننا فيه خيالاً. والذي يقع عليه الضوء قوياً ينشأ عنه التصور في أذهاننا.
والذي يقع عليه الضوء قويا جداً يشاهده أنظارنا. وفي الواقع نمر بمراحل أربعٍ لنرى
شيئاً من الأشياء.
ولكي نرى أوندرك
شيئا من الأشياء يرد وهمٌ خفيفٌ عنه إلى أذهاننا. أي تنشأ صورة خفيفة عنه ، ويتعمق
الوهم فيكون خيالاً. ويتمعق الخيال فيرتسم نقوشه على الذهن . وتتعمق النقوش
فتحوِّل الخيالَ تصوراً. وإذا تجلت النقوش في الملامح على وجه التصور فإن ذلك
الشيء يمثُلُ أمام الأنظار.
والتفكر يشير
إلى أن السمع صلاحية من الصلاحيات، تعمل في أخف الأنوار، و تنقل الصورة الخفيفة عن
الشيء ـ وإن كانت في درجة الوهم ـ إلى النظر. ليتم قطع ثلاث درجات أخرى فيصبح ذلك
الشيء قابلاً لأن يُرى ويُشاهد في أشكال الملامح و الأبعاد (dimension). وكما شرحنا قانون النظر كذلك تعمل
سائر المشاعر، وهذه المشاعر هي الشامة (شعورالشم) والسامعة (شعور السمع) والذائقة
(حس الذوق) واللامسة (شعور المس). وتُجري كافة رغبات الحياة، وكافة أعمال الحياة
وأحداثها وحالاتها، كافة أنماط الحياة خاضعة لهذا القانون.
قلب الكون
ترد خيالات
وتصورات مختلفة بشكل دائم إلى أذهاننا دون أن نستخدم فيها إرادتنا. وتدخل الخيالات
بعضها عقب بعض في الشعور دون إرادة واختيار منا. و التصورات والخيالات والكيفيات
والمتطلبات التي تعمل في الحياة الإنسانية تشتمل على ثلاث درجات.
فنوع من
الخيالات الإحساسات تدرك بوجوده، فيرى المرء نفسه في صورة الإنسان بفضل ذلك. فكأنه
شعور انفرادي. وهذا النوع من الشعور يحظى به كل مخلوقات الكون. فالشاة تنفرد
بإحساس وشعور، واليمامة تشعر بوجودها.
والنوع الثاني
من الشعور ما يعرف الفرد بتصور نوعه، فمثلاً ينشط الشعور في الإنسان، فيولد
الإنسان من الإنسان. وتلد البقرة فصيلاً، وشعر ولد الإنسان مثل شعور أبويه. ويولد
الفصيل بالشعور الذي يتصف به البقرة.
وثمة مجموعة من
الخيالات والإدراك هي شعور يستوي فيه المخلوقات كلها. و مظهر هذا الشعور هوالنظر.
وهذا الشعور يحمل نمطاً واحداً حيثما تجلى وظهر. فمثلاً يحسب الإنسان الماء ماءً،
والشاة تحسب الماء ماء كذلك فتشربه. ولم يتسرب إلى دور هذا الشعور أوالنظر تغيير
من الأزل إلى الأبد. ولايختلف دوره إن تغيرالمكان.
وبفضل هذا
الشعور تربط علاقة خافي المخلوقات كلها بعضها ببعض. وعليه كانت أقدار الكون
الأساسية واحدة. فالجوع والعطش والحزن والهم، وقوى البصر، و السمع، واللمس يتصف
بها الخلق كله. فإذا تحركت هذه القوى في الأنواع استخدمها كل نوع في أنماط مختلفة
وفقاً لأقداره. فالشعوربالجوع مثلاً يتصف به الأسد، وفي الشاة أيضاً، إلاأن كل
واحد منهما ينفرع عن غيره في إكمال مطلباته. ويعمل ذهن النوع بمفرده في الخيال
بناءً على المعاني. أي يتحول ذهن النوع في الفرد إلى شعور فردي.
وذهن الكون يشبه
بذرالشجرة، فجذع الشجروفروعه وثماره وأزهاره كل ذلك يقوم على البذر الصغير. البذر
الصغير يبدي نفسه في آلاف الأشكال والصور. ولولا البذر لاستحال ذكرالشجر. وكذلك
تتحرك كافة الأنواع وأفرادها بذهن الكون. والنوع وكذلك كافة الخيالات والتصورات
العاملة في النوع، امتداد لوحدة واحدة.
ولواعتبرنا ذهن
النوع تياراً برقيا، لكانت الأنواع وأفرادها كلها بمنزلة المصابيح البرقية. فكما
يصل التيار البرقي عبر الأسلاك إلى مئات الآلاف من المصابيح، كذلك تصل البلاغات
إلى النوع وأفراده عبر الذهب الكوني. وبما أن نظام البلاغات يشبه التيار البرقي،
يعمل ذهن الأنواع كلها مرتبطة بعضها مع بعض.
ولو تأملنا في
الحياة لتبين لنا أن اتجاهاً من ذهننا يعمل يتحرك في الحياة المادية ، والاتجاه
الثاني يشكل مصدرا (source) لبلاغات الحياة،
يحتفظ بجميع بلاغات الحياة وحركاتها. تخضع له حياتنا. إن آلافا من الحركات
والأعمال الكيماوية والبرقية في أجسامنا تتحق بدون إرادة منا. فمثلاً نُضطرإلى بذل
قوة إرادية في التنفس، وغمض الجفن، وخفقان القلب. فهذه الأعمال كلها تقع تلقائيا
مرتبة ترتيباً محدداً.
تنتقل ملامح
النوع وتصوراته وبلاغاته من الفرد إلى المولود في مرحلة الخلق. ودور الشعور الفردي
في الخلق سطحي وعابر. ويقوم الذهن النوعي والذهن الكوني بدور أساسي.
ومع رقي علم
الوراثة (genetic) لايصعب أن ندرك
شكل المولود يشبه أبويه و أقربائه. و يولد الطفل ـ بالنظر إلى نوعه ـ على الملامح
التي يتصف بها أفراد أخرون من نوعه. فلايرث الملامح الجسدية فحسب؛ بل ينتقل إليه
العادات والأطوار. وبعبارة أخرى تنتقل نقوش النوع وصفات الذهن الكوني إلى الطفل من
أبويه انتقال السجل. وكل مولود يحتفظ بهذا السجل. ويتوسع نوع شعوره متزامناً مع
تقدم سنه.
ونظراً إلى هذه
الحقائق يتبين كالشمس في رائعة النهارـ أن ثمة نظاماً ذا اختيار وشعور وراء
حركاتنا الإرادية يعمل في داخلنا. ويطلق على هذا التشخص ذي الشعور في
الروحانية" الشعور الاجتماعي". هذا الشعوران ـ اللذان هما يشكلان أساس
الكون كله ـ هما الروح باجتماعهما.
ومامن أحد إلا
يحمل ـ بجانب شعوره الفردي ـ ذهن النوع وشعور الكون أيضاً . والمراد من النوع كل
من يولد من أول الخلق إلى اللحظة الحاضرة من الأفراد. وتجتمع محسوسات النوع لا في
شعور الفرد بل في ذهن النوع. ومنه ينتقل الشعور.
مثال:
رجل يرغب في
تعلم فن الكتابة. فيتوجه إلى الفن، ويحاول أن يستوعب الفن وفقاً لقواعده السائدة.
فيصبح بعد وقت محدد مؤهلاً لأن يتظاهر بهذا الفن بإرادة منه. والمعنى أنه حرك
صلاحية متوفرة في نفسه، وجعلها جزءاً من شعوره. وبذلك يتمكن من تعلم علم أوفن من
نوعه. وهذه الكفاءة والصلاحية موجودة في ذهن الإنسان النوعي. وينتقل منه ليتحول
جزءاً من شعوره. وكذلك من أراد أن ينبه ذهن نوعه أوذهن الكون، فإنه يحرز نحوا من
النجاح الذي يكسبه في تحريك ذهنه النوعي.
ولوتم جذب كافة
كيفيات الشعورالفردي في الشعورالنوعي، فإن الشعور الفردي يتحلل في الشعور النوعي.
فيربطه بمجمل شعور النوع البشري. وبإمكانه أن يوصل خياله ـ مهما بعد ـ إلى غيره من
غير أن يتخذ المظاهر وسيلة إليه. كما يسعه استقبالُ خياله و تلقيه. ويمكن أن
يستخدم علم الخيالات هذا ـ كثيراًـ في تسخير الذات وبنائها. ويطلق في العرف العام
على هذا العلم "انتقال الخيال". لوترقى الشعور الفردي إلى أن ينسجم مع
شعور الكون، فإنه يطلع على الشعور الجماعي لكافة المخلوقات. ويمكن التعرف على
حركات الحيوانات والجمادات والجن والملائكة كلهم. وكذلك يمكن مشاهدة السيارات و
النظم السماوية.
ولوأن ذهن شخص
من الناس دخل في الذهن النوعي ثم في الذهن الكوني فإنه لايعجز عن مطالعة الكون
كله؛ لأن الكون لايتحكم فيه إلا شعور واحد، وبه يفهم كلُ تيار معاني التيار الآخر،
وهذان التياران يقعان على طرفي العالم. ولوأدخلنا شعورنا عن طريق التوجه والعناية
في الذهنين العاملين وراء الستار لهان لنا أن نفهمما فهمنا لِوارِدَاتنا الشعورية
وكيفياتنا الشعورية.
وبتركيز التوجه
يمكن مشاهدة آثار وأحوال كوكبنا وكواكب أخرى. وكما يمكن معرفة حركات وسكنات الإنس
والحيوان والجن والملائكة ، والدواعي الباطنة في الجمادات. ومواصلة التمرين على
المراقبة يبعث ارتكاز التوجه. ويتحلل الذهن في الشعور الكوني، ويرى ويدرك ويحتفظ
بكل شيء حسب الحاجة.
نظرية التوحيد
الضميرنورباطن،
ولكي يتم الاستفادة من النور الباطن طبَّق الله تعالى الشرائع على أيدي الأنبياء
عليهم السلام. وحين نتأمل في الشريعة ونفكر في توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم
ونستنبط نتيجة من النتائج، فإننا لانتوصل إلا إلى حقيقة واحدة وهي أن الجانب
الإجمالي في خلق النوع البشري يكمن في الإيمان بأن الله تعالى واحد. و الإيمان بأن
الله تعالى واحد يطلق عليه التوحيد. والتوحيد أوالإيمان بأن الله واحد، و الإيمان
بأنه الخالق دون أحد غيره، اطلع عليه الأنبياء عن طريق الوحي. وبما أنه ينكشف على
الأنبياء عن طريق الوحي، فكل ما يلفظونه من قولٍ لايتطرق إليه القياس سبيلاً .
وأما الفرق الكافرة بالأنبياء فإنهم يتلمسون التوحيد بقياس من عندهم. وقد استضاء
الإنسان بالقياس إلى الإيمان بسلطة قوة واحدة ، منذ اتخذ المجتمع البشري وجوداً
ماديا له. وبحثت الفرق الكافرة بالأنبياء عن التوحيد بقياس من عندهم. فأضلهم
قياسهم ومثل لهم التوحيد في نظرات غيرتوحيدية. وتصادمت هذه النظرات مع نظرات الفرق
الأخرى حيناً بعد حين. إن النظرية التي يفرزه القياس والفرضية (fiction) قد تساير نظرية أخرى خطوات ولكنه يفشل
ويخسر. لأنها نظرية مقيسة في أصلها. و لايعضدها حقيقة لكي نؤمن بها. وأما نظرية
التوحيد التي جاء بها الأنبياء فليس قائمة على القياس. وحين نتحدث عن النوع البشري
ونحرص على فلاحه ونجاحه، فإنه يستوجب منا أن ننظرإلى أن النوع البشري عائلة واحدة.
وثمة قيمٌ على هذه العائلة. وذلك مما لايتطرق إلى أدنى ريب.
ولكي نجمع النوع
البشري على هذه النظرية يجب التوافق على مدرسة فكرية واحدة. وهذه النقطة الفكرية
تقول: إن الله تعالى ذاته هي القيمة على النوع البشري. ولم يأت نبي من الأنبياء
الذين بعثوا من لدن الخلق إلى خاتم الأنبياء إلا دعا إلى التوحيد. ولم تناقض
توجيهات نبيٍ توجيهاتِ غيره من الأنبياء. فإذا رغب النوع البشري في الاجتماع على
نقطة واحدة ويفلح، فإنه لابد من الأخذ بالتوحيد الذي جاء به الأنبياء عليهم
السلام. ويشهد التاريخ بأن النظم والفلسفات المحدثة ـ غير نظرية التوحيد ـ اندثرت
وماتت مع موت أصحابها أوهي في طريقها إلى الانهيار والهلاك. ويشهد العصر الراهن
فناء كافة النظم الفكرية القديمة تقريباً أوهي في طريقها إلى الزوال بعد أن تسرب
إليها التبديل والتغيير.
إن الأجيال
الحاضرة بلغت من اليأس والقنوط مكاناً يفوق ما بلغته الأجيال السابقة. ولن يتزداد
الأجيال اللاحقة إلا يأساً وقنوطاً. وسيأتي على الناس زمان يضطر فيه النوع البشري
ـ في قوة أوأخرى ـ إلى نقطة التوحيد التي جاء بها الأنبياء وعرفوا الناس بها.
نجد البلاد
والأمم تختلف في أنماط حياتها. تختلف في لباسها وتختلف في وظائفها الجسدية.
ويستحيل أن تتحد الوظيفة الجسدية في النوع البشري كله. وبغض النظر عن الوظائف
الجسدية حين ننظر في نفوسنا، لم نصل إلا إلى أن بني البشرـ وإن اختلفوا في الوظائف
الجسدية ـ يشتركون في الوظائف الروحانية. وهذا القدر المشترك يتمثل في أن المخلوق
واحد، والله الذي يدبر خلقه ويقضي حوائجه واحد. ولوتأملنا ـ بعض التأمل ـ لتبين
لنا أن ما يحظى به النوع البشري من الرقي، وما وصل إليه من مدارج العلوم، كل ذلك
يرجع إلى ذات واحدة. ولايعد علم من العلوم علماً ما لم يخلقه (inspire) ذات من الذوات في الدماغ الإنساني.
ويستحيل أي رقي مالم يتم التفكيرفي أمر من أمور هذه الدنيا. فإذا وجد الشيء حصل
الرقي، وإلا فلا. فلو وجد النوع البشري حصل له الرقي، وإلا فلا. وإذا لم يخيل إلى
ذهن النوع البشري فعلُ شيء أو إيجاد شيء لم يتم الإيجادو الاختراع . وهذاهو
الترابط الذي ينشط ـ روحيا ـ في كافة الأنواع وأفرادها. ومصدره ومخرنه هو التوحيد
لاغير. فعلى أهل الفكر في العالم أن يسعوا إلى تصويب التعبيرات الخاطئة، وهذا
هوالعمل الأكيد الذي من شأنه أن يجمع أمم العالم على دائرة روحية. وهذه الدائرة
الروحية عبارة عن التوحيد الذي جاءت به الكتب السماوية والقرآن الكريم. وإن الدخول
في التوحيد الذي جاء به القرآن الكريم وتقمصه وتنفيذه في نفس البشر يتطلب ضربَ
العصبية عرضَ الحائط، ويستوجب التحرر من الاختلاف والتفرق. وغير بعيد أن يضطر
الصدام الدامي القادم ـ اقتصاديا كان أوفكرياـ النوع البشري إلى البحث عن البقاء،
و لاسبيل إلى البقاء إلا في التوحيد.
المراقبة والدين
يقول أصحاب
الأديان والمنابر: المراقبة لاعلاقة لها بالدين. ولم تذكرہ الصحف السماوية. وهذا
الكلام ربما يؤثر فيمن يحمل الفكر العابرالسطحي، ولكن يزول هذا الأثر حين نغور في
حكم الدين وأعماقه، حين نتأمل في الصحف السماوية والكتاب الأخير: القرآن الكريم
نجد كتاب الله تعالى يأمرنا بالتدبر، والتفكر. ويراد بالتفكر النظر بكل ما لدينا
من قوة ذهنية في آيات الكون المنتشرة. وثاني أهم أركان الدين هو الصلاة، وهي مصطلح
جامع. ويعبر عنه بإقامة الصلة وعقد الربط. ويعني إقامة الربط: أن يتعلق العبد بربه
بالفكرالذهني. والعلاقة الذهنية هي المراقبة (concentration).
والمراقبة
لاتتقيد بجلسة أومنهج؛ لأنهاعبارة عن كيفية ذهنية أوعمل ذهني. والنهج الذي وضعه
الدين للأعمال والأركان قد روعي فيه الواردات الظاهرة والباطنة. فما من ركن أوعمل
إلا له مظهروشكل خارجي، وآخر باطني أوكيفية باطنة. يجب اجتماع الجزأين معاً.
والكيفية
الباطنة ـ التي تستهدفها أركان الدين وفرائضه ـ تنتهي إلى مرتبة الإحسان
(المراقبة). وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكيفية الباطنة قائلا :"«أَنْ
تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ
يَرَاكَ» وذلك في الصلاة. وبإمكان المرء أن ينتهي بالوصف الباطن لأركان الدين
(التفكر) إلى صفة الإحسان، أي يحصل له معرفة الله تعالى.
وكان أهل
الإيمان تتجه أنظارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حضرته. و كانت أرواح عشق
الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ملونة. وكان معظم أوقاتهم تصرف في التفكر في ذات
النبي صلى الله عليه وسلم. وكانوا يستغفرقون ـ للغاية ـ في حديث النبي صلى الله
عليه وسلم وتلمس الحكم في أفعاله وأعماله. فكانوا يتمتعون بالأنوار الروحانية بسبب
هذا الانهماك كل الاستمتاع. وبحكم حضور هم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم نشأت
فيهم زاوية التفكر والوجدان تلقائياً .ولم يكونوا يكدحون للحصول على ذلك.
وانتقل النبي
صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وتحول قربه بعداً، واختفت عن الأنظار
الظاهرة فيضاناتُ المنبع الروحاني. وأخذ الوصف الباطن للدين (التفكر) ينمحي في الأذهان
ويضمحل تدريجياً. وعاد الدين مجموعة من مجرد رسوم وأعمال ظاهرة . وأبرز أولياء
الله والصوفية أهداف الدين الروحانية. ورتبوا الجانب الباطني و دونوه وقعدوا له
قواعد . والهدف من ورائه ضم سبيل الفكر إلى الذكر. فأطلق على المظهر العملي للفكر
"المراقبة" التي تعني التأمل والتدبر (concentration) في شيء.
التفكر:
وأَولَتْ الكتبُ
السماوية السابقة عامة والقرآن الكريم خاصة التفكرَ والتدبر أهميةً قصوى. وأمرت
بالتفكر والتدبر كثيراً. فأمر بالنظر في السماوات، وأمر بالنظر في الأرض، و ربما
نبه على نزول المطر، وظهور النبات. وربما أمر بالتفكر في خلق المخلوق وخلق
الإنسان. وأكد على اتخاذ التفكرـ بأساليب البيان المختلفة ـ جزءا من التدبر
والنظر. ويقول القرآن الكريم إن أهل العلم وأهل الله وخاصته يتصفون بصبغ التفكر
أذهانهم.
قول الله تعالى:
(إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران].
وأخبرالقرآن
الكريم ـ بجانب الكون ـ عن ذات الله تعالى وصفاته، فيقول في آية:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) [البقرة/115]
وقال
في آية:
(وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[البقرة/233]
وقال في آية:
(إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)[فصلت/54]
وقال تعالى:(أَوْ
كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى
يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ
بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ
بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ
يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ
إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة/259]
وقال في سورة آل
عمران:
(وَمَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ
يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ
حَكِيمٌ)[الشورى/51]
وقال
في سورة الملك:
(
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ
الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا
وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك/3ـ 4]
وقال في
العنكبوت: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ )[العنكبوت/49]
وقال تعالى:(مَا
يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ)[المؤمن/4]
قال
تعالى:
(
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ
عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا
يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ
أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ
وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) [الواقعة/75ـ 85]
ودعا إلى
التفكرفي سورة الرحمن فقال:(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ
أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا
تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ(33)فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [الرحمن/33ـ 34]
وقال
في سورة البقرة:
(إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِوَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة/26]
كل هذه الآيات
التي تتعلق بالغيب تهدف إلى أن يأصل الإنسان هذه
الحقائق كلها في شعوره فلايبقى له مثقال ذرة من ريب وشك، ويصل إلى درجة اليقين.
وهذا اليقين يؤدي به إلى المشاهدة. ويعتبر أولياء الله هذه المرتبة ــ بعد الإقرار
باللسان ـ تصديق القلب، أي يشاهد المرء بعين قلبه ما يؤمن به.
ويرشد
أهل الله أتباعه إلى المراقبة لتتحول كيفية اليقين هذه جزءاً من الشعور. وعن طريق
المراقبة يحاط القلب بحقيقة من الحقائق إحاطة تفتح عين الروح، ويرى الإنسان
الحقيقة متمثلة ومتشكلة.
وتحليل
التفكر يبين أنه عمل ذهني، يتخلى فيه المرء عن كافة أوهامه و خيالاته، ويسرح في
خيال أونقطة أومشاهدة. وحين أضفى أهل التصوف و الروحانية على التفكرصورة تمرينية،
وقعدوا له قواعد ووضعوا له آدابا وسلوكيا، فاصطلحوا على تسميته بـ المراقبة.
ويحمل
الفكر الإنساني نوراً بإمكانه أن يشاهد باطن المظهر، وغيب الحاضر. وينجح مشاهدة
الغيب في تحليل موجود في الظاهر. وبعبارة أخرى : إذا رأينا باطن شيء يستحيل أن
يختفي ظاهره عنا. وبه ينكشف أبعاد الظاهر على الذهن الإنساني. وتتحق إمكانيات
الاطلاع على مبدأ الظاهر.
ومن
طرق الأنبياء أنهم يتلمسون الظاهر بالباطن. والتفكر في الباطن يؤدي إلى استنارة
الذهن بالنور الذي يشاهد به الحقائق الخفية. ووصف النبي صلى الله عليه وسلم
هذا النور بالفراسة. قال صلى الله عليه وسلم: " «اتَّقُوا فِرَاسَةَ
المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ».
إن ارتكاز
الفكرمما لابد منه في علوم الظاهر والباطن. ومالم يتصف الفكر بعواطف الذوق والشوق
والتجسس وقوة التعمق، يستحيل علينا كسب علم من العلوم. ومثل تحصيل علم الروح فإنه
يستوجب من الإنسان أن يقدر على حشر صلاحياته الفكرية في نقطة واحدة. وحين يفكر
المرء بصفاء الإرادة والعمل، فإن نقطة الفكر تنفتح له. ويتمثل له معنويته أو
باطنه.
وما أكثر ما
أشار الله تعالى في القرآن الكريم إلى آياته وأمر بالتفكر فيها. والآية في الواقع
مظهر من مظاهر الحركات الظاهرة. ولفت الانتباه إلى التفكر والتبدبر يشير إلى أن
ثمة عوامل خافية وراء الستار تعين فهمُها على تحصل علم الحقيقة. والواقع أن كافة
العلوم الطبيعية والمظاهر المادية تقوم على القوانين الروحانية. وبالإمكان تعلم
هذه القوانين بالتفكر والتدبر.
قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: من عرف نفسه فقد عرف ربه.
إن النفس
الإنسانية أوالأنانينة أوالروح مجموعة من صفات تترجم كافة الكون. وعليه يوصف
الإنسان بـ خلاصة الموجودات. قال الله تعالى في القرآن الكريم :(وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق/16]
وحين يتلمس
المرء صلاحيات روحه وصفاتها، ينكشف عليه أسرار الخلق. وينتهي معرفة النفس إلى
إيجاد نور في الذهن يعرف به خالقه.
قال تعالى:
(وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات/21]
وبشرقائلا:
(سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت/35]
إن سبل معرفة
النفس انتقلت من الأنبياء والرسل إلى النبوع البشري. وتحتل المراقبة منزلةً
مرموقةً بين المسالك التي اتبعها الذين استفاضوا من نور النبوة في سبيل معرفة
النفس.
والمراقبة عمل
قلبي، مأخوذة من كلمة "الرقيب". والرقيب من أسماء الله تعالى، تعني
الحفيظ والراعي. والمعني أن يحفظ ذهنه حفظاً يصرفه عن الخيالات المعكوسة والأفكار
الشاردة إلى الله تعالى أوصفة من صفاته، أوآية من آياته. والمعنى الآخر للرقيب
المنظر. وتعريف المراقبة بهذا المعنى: أن يجمع الإنسان
حواسه الظاهرة على مركز واحد، ويتوجه إلى روحه أو باطنه لينكشف عليه معاني وأسرار
العالم الروحاني.
والمراقبة
اصطلاحاً: التفكر والتأمل والتصور. يقول الشاه ولي الله الدهلوي :"وحقيقة
المراقبة أن توجه قوة الإدراك إلى شيء، سواء كان إلى صفات الحق أو إلى حالة مفارقة
الروح من الجسد أو غيره. ويتم هذا التوجه بحيث يتبع العقل والوهم والخيال وسائر
الحواس له، ولايبقى الشيء محسوساً ، بل يعود معلوما بدلاً من أن يكون محسوساً.
والمعنى أن
تتجاوز العلوم والحقائق ـ التي هي وراء العقل والشعور تُعدُّ جزءاً من الروح ـ
حدودَ الإدراك والمحسوسات وتدخل في المشاهدة والمعاينة.
وجاء في "
التعليمات الغوثية" نقلاًعن غوث علي شاه مايلي :"من أحوال المراقبة أن
المراقب يتجه دائماً إلى القلب. ويشتغل بكيفيات القلب دائماً. و الحالة الثانية أن
يبذل عنايته كلها إلى اسم من أسماء الله تعالى أو آية من آيات القرآن الكريم.
وتزداد المركزية زيادة تجعل المراقب نفسه معنى من المعاني، ويغفل عنه نفسه. واعلم
أن المراقبة تنحصر في الكيفيات القلبية. وحين يتجه القلب إلى الله تعالى أو إلى غيره
فإن سائر الأعضاء تتجه إليه؛ لأنها خاضعة للقلب. وتنتج المراقبة عن الاستغراق في
تصور المحبوب استغراقا يذهله عن غيره".
"راقب
الله، فسأله عن معناها، فقال: عش كأنك ترى الله تعالى ". وورد عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه
يراك".
وأول منازلها
المشاهدة وثانيتها المراقبة.
يقول الغزالي في
كتابه "كيمياء السعادة" :" ولا تظنن أن
هذه الطاقة تنفتح بالنوم والموت فقط، بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة،
وتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة . فإذاجلس في مكان
خال، وعطل طريق الحواس، وفتح عين الباطن وسمعه، وجعل القلب في مناسبة عالم
الملكوت، وقال دائما: الله-الله-الله (بقلبه، دون لسانه، إلى أن يصير لا خيرمعه من
نفسه، ولا من العالم، ويبقى لا يرى شيئا إلا الله سبحانه وتعالى انفتحت تلك الطاقة،
وأبصر في اليقظة الذي يبصره في النوم؛ فتظهر له أرواح
الملائكة، والأنبياء، والصور الحسنة الجميلة، وانكشف له ملكوت السماوات
والأرض".
وقداستخدم
التفكر لمشاهدة الكوائف الغيبية كل من
اصطفاه الله وتعالى وكذلك رسله وأنبياؤه . و قضوا شهوراً أو سنوات بكافة صلاحياتهم
في المراقبة. ولايظن أن مقام النبوة ينال بالسعي. فإنما فضل من الله تعالى، يتفضل
به على عبد من عباده. وانتهت الرسالة والنبوة ولكن الإلهام وفيض الضمير المنير
مستمر لم ينقطع.
خواجۃ شمس الدين عظيمي
السؤال عن الإنسان حقيقته ونطاق قدراته أصبح
يحتل أهمية كبيرة في هذا العصر العلمي. و العلم بسنة الخلق يفيد بأن ابن آدم يتشكل
آلافاً من التشكلات، وهو فيما يبدو تمثال من طين ، وعبارة عن كيان من اللحم والجلد
والدم والعظم، قائمٍ على الحركات الميكانية. ويعمرداخله عالَمٌ كيماوي بأسره. وإن
حياة المرء تعتمد على الاطلاعات والبلاغات، وليس المرء إلا خيالاً و تصوراً . وكل
حركة صادرة منه خاضعة للخيال والتصور. وإن جميع المآثر في العالم الإنسان يدور
رحاها حول قوة غير مرئية من الخيال والتصور والتخييل. وإن ابن آدم يُلبس الخيالَ
أنواعاً مختلفةً من المعاني، فيتجلي منه كل جديدٍ وحديث من المظاهر.